«الذكاء الإنساني، اتجاهات معاصرة وقضايا نقدية» تأليف: الدكتور محمد طه، عن سلسلة "عالم المعرفة" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، طبعة أغسطس (غشت) 2006 .ص 229 -246 . - بتصرف-
نظريات معاصرة حول الذكاء
مع التطورات المتلاحقة في فهم جوانب مختلفة للذكاء ،ومع تطور فهم نمو الذكاء وإمكان تنميته، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة اجتهادات نظرية تهدف إلى البناء على المداخل الحديثة في فهم الذكاء وخصوصا المدخلين المعرفي والثقافي ،وتهدف إلى التعامل مع مجموعة من القدرات وجوانب الذكاء التي تقصر عن تقديرها المناهج الدراسية واختبارات الذكاء التقليدية .وفي هذا الفصل نتناول ثلاث نظريات حديثة حول الذكاء ظهرت في الولايات المتحدة بدءا من منتصف العقد الثامن من القرن العشرين، وهي نظريات الذكاء المتعدد لهاورد غاردنر Gardner والذكاء الثلاثي لروبرت سترنبرغ Sternberg ونظرية الذكاء البيولوجي –البيئي التي قدمها ستيفن سيسي.
*****نظرية الذكاء المتعدد Multiple Intelligence
قدم هوارد غاردنر الأستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة النظرية لأول مرة عام 1983 في كتاب بعنوان أطر العقل واستمر في تطويرها لما يزيد على 20 عاما بعد ذلك لقد بدأ اهتمام غارنرد بالذكاء منذ مرحلة مبكرة من حياته مدفوعا بعدد من العوامل التي ذكرها في كتاب لاحق له صدر عام 1999 وفي خطاب ألقاه يوم 21 أبريل عام 2003 أمام رابطة البحوث التربوية الأمريكية American Edicational Research Association في مدينة شيكاغو الأمريكية حيث قدم تاريخا شخصيا لبداية تفكيره في النظرية وكيفية تطويرها . في صدر شبابه كان غاردنر مهتما بالعزف على آلة البيانو وببعض الفنون الأخرى بالإضافة على اهتماماته العلمية . وعندما بدأ دراسة علم النفس المعرفي فيما بعد لفت نظره أن هذا العلم لا يولي اهتماما كبيرا لفهم الفنون وأن أنواع الذكاء والقدرات المرتبطة بالفن مازالت غير واضحة في هذا التخصص. وقد دفعه هذا إلى التفكير في الحاجة إلى دراسة الذكاء من منظور أوسع. ومن ناحية أخرى فقد بدا غاردنر حياته المهنية بدراسة الأفراد المصابين بجلطات دماغية أو أعصاب في أماكن مختلفة من المخ وما يترتب على هذه الإصابات من نتائج فما يتعلق بالوظائف النفسية المختلفة كالذاكرة واللغة والانتباه وغيرها . وقد دفعه إلى دراسة العصبي للقدرات العقلية في المخ. أما ثالث العوامل المؤثرة في دراسة غاردنر للذكاء فكان عمله فيما يسمى المشروع صفر Project Zero وهو مشروع بحثي أسسه نيلسون غولدمان N.Goldman في جامعة هارفرد عام 1967 بهدف دراسة النمو المعرفي لدى الطفل والتضمينات التربوية المرتبطة به.
وهكذا توافرت لغاردنر فرصة مواتية لدراسة الذكاء بشكل منظم اعتمادا على عدد متسع من التخصصات تمتد من علم النفس وعلم الأعصاب إلى الإنسانيات والفنون . ولقد لعبت هذه العوامل دورا كبيرا في تحديد اتجاه دراسة الذكاء لدى غاردنر . وثمة جانبان رئيسيان لنظرية غاردنر توصل إليهما من خلال هذه الخبرات الأول أن الذكاء ليس مكونا أحاديا متجانسا بل لقد أظهرت دراسات الحالات النيوروسيكولوجية لغاردنر أن الأداء في أحد جوانب الذكاء لا ينبئ أو يحدد مستوى الأداء في الجانب الآخر وبالتالي لا يوجد ذكاء واحد (أحادي أو متعدد ) بل يوجد عدد من أنواع الذكاء التي يشكل كل منها نسقا مستقلا خاصا به وعلى هذا الأساس فإن غاردنر لا يرى في هذه الأنواع المختلفة من الذكاء قدرات أو مواهب تشكل أبعادا أو عوامل للذكاء بل يرى أن كلا منها يشكل نوعا خاصا ومستقلا من الذكاء وبالتالي فهناك حاجة إلى فهم هذه الأنواع المختلفة من الذكاء التي تقصر عن تقديرها اختبارات الذكاء التقليدية التي لا تقيم حسب رأي غاردنر سوى مزيج من القدرات اللغوية والمنطقية وهي القدرات الضرورية فقط لأساتذة القانون والمحامين .أما الجانب الثاني من جوانب النظرية فهو أن أنواع الذكاء تتفاعل للقيام بمهام الحياة المختلفة فحل مشكلة رياضية مثلا يتطلب تعاونا من الذكاء اللفظي والذكاء المنطقي والرياضي وعلى هذا فإن الناس يختلفون بين هذه الأنواع بحيث يمكن القول إن كل إنسان لديه بروفيل عقلي Intellectuual profile خاص به. وقد قدم غاردنر لاحقا دراسات حول الأشخاص ذوي البروفيلات العقلية المتميزة فدرس المبدعين والقادة وذوي الإنجازات المتميزة.
أنواع الذكاء ׃ بناء على المحكات السابقة حدد غاردنر سبعة أنواع للذكاء في الصورة الأولى من النظرية عام 1983 ٬ ثم أضاف إليها نوعا جديدا هو «الذكاء الطبيعي» في مراجعته للنظرية عام 1999 . وعلى هذا تصبح أنواع الذكاء في نظرية الذكاء المتعدد ثمانية وهي على النحو التالي׃
1- الذكاء اللغوي Linguistic ׃ ويتضمن التمكن من مهارات فهم اللغة من خلال القراءة أو الاستماع ومهارات إنتاج اللغة من خلال الكتابة والكلام وهي المهارات التي يوجد مركزها في منطقة بروكا في النصف الأيسر من المخ.
2- الذكاء المنطقي –الرياضي Logico-mathematical ׃ ويشمل القدرة على إدراك الأنماط والاستدلال وعلى التفكير المنطقي٬ كما يشمل التمكن من العمليات الرياضية والتعامل بالأرقام. ويمكن القول إن كلا من الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي –الرياضي متضمنان بقوة في الأداء في اختبارات التحصيل المدرسي وفي اختبارات التقليدية.
3- الذكاء المكاني spatial ׃وهو القدرة على التعامل من المكان والانتقال من مكان إلى آخر. وهذا الذكاء يتضمن القدرة على الإبحار في البحر أو الجو٬ فهو ذلك الذكاء الذي يتوافر لدى الملاحين الجويين أو البحريين وهو يوجد في المنطقة الأمامية Posterior region في النصف الأيمن من المخ.
4- الذكاء الموسيقي Musical ׃ ويتضمن التمكن من المهارات الموسيقية مثل الغناء والعزف والتأليف الموسيقي٬ بالإضافة إلى القدرة على تقدير هذه المهارات مع الاستمتاع بها. و غالبا ما توجد هذه المهارات في النصف الأيمن من المخ وإن كانت غير محددة لموضع بشكل دقيق.
5- الذكاء الجسمي-الحركي Bodily-kinesthetic ׃ ويتضمن القدرة على استخدام الجسم ككل أو أجزاء منه لحل المشكلات أو للإنتاج الإبداعي كما في الأداء الفني أو الرياضي. وهذا الذكاء ينمو بوجه خاص لدى الرياضيين والممثلين وكذلك الجراحين. ويوجد مركزه في القشرة الحركية motor cortex في النصفين الكرويين من المخ.
6- ذكاء العالقات مع الآخرين Interpersonal ׃ ويتضمن القدرة على التعرف على نوايا ومشاعر ودوافع الآخرين٬ وهو مهم للسياسيين ومندوبي المبيعات والمعالجين النفسيين والمدرسين.
7- ذكاء فهم الذات Interpersonal ׃ قدرة الشخص على فهم ذاته وعلى استخدام هذا الفهم في تنظيم حياته وتحديد أهدافه وعلاقته بالآخرين .ويمكن القول إن كلا من ذكاء العلاقات مع الآخرين وذكاء فهم الذات يوازيان ما يعرف بالذكاء الانفعالي .
8- الذكاء الطبيعي natural ׃ وهو النوع من الذكاء الذي قدمه غاردنر لأول مرة في عام 1998 ويتضمن القدرة على إدراك وتصنيف أنماط الموجودات وأنواعها في الطبيعة. ويمثل تشارلز داروين Darwin عالم الأحياء البريطاني الشهير وصاحب نظرية التطور مثال غاردنر الرئيسي لتوضيح هذا النوع من الذكاء .
بالإضافة إلى هذه الأنواع الثمانية من الذكاء٬ يشير غاردنر إلى وجود نوعين آخرين من الذكاء هما الذكاء الروحي Spiritual والذكاء الوجودي existential ويتوقع أن يؤدي مزيد من البحث فيهما إلى إثبات توافر المحكات الثمانية اللازمة لتعريف الذكاء فيهما. ويتضمن الذكاء الروحي الاهتمام بالقضايا الكونية والخبرات فوق الحسية وتقديرها. أما الذكاء الوجودي فيشير إلى الاهتمام بالقضايا الأساسية للوجود الإنساني والعدم وبمصير الإنسان.
*****نظرية الذكاء الثلاثي Triarchic Intelligence ׃
قدم روبرت سترنبرغ أستاذ علم النفس بجامعة ييل بالولايات المتحدة نظرية الذكاء الثلاثي لأول مرة في منتصف الثمانينيات مدفوعا –مثله مثل غاردنر- بإدراكه لقصور مقاييس الذكاء التقليدية عن الإحاطة بجميع جوانب الذكاء الإنساني . ويرجع سترنبرغ بدء اهتمامه بقضايا الذكاء وإدراكه إلى أن اختبارات الذكاء ربما لا تعكس جميع قدرات الإنسان إلى خبرة شخصية مرت به في المدرسة الابتدائية٬ إذ فشل في اختبار الذكاء الأولي في المدرسة٬ والذي طبقته أخصائية نفسية غليظة الطباع تسببت في إصابته بقلق شديد من الاختبار .